صفات عباد الرحمن في سورة الفرقان



﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا ﴾ [الفرقان: 63 - 77].

بين يدي المقطع الحادي عشر (خاتمة السورة):
آثار العقيدة في سلوك الأفراد والمجتمعات:
لكل عقيدة آثارها على مستوى الأفراد، وحضارتها على مستوى المجتمعات.
فالعقائد القديمة الوضعية: الآيونية واليونانية والرومانية أوجدت أفراداً يهتمون بإشباع الرغبات والشهوات والنزوات، وأوجدت حضارات مادية تجسدت في التماثيل والنصب والمسارح التي ترمي إلى إشباع السعار الجنسي وشهوة الانتقام وتقديس القوة والجمال الجسدي، ولا زلنا نرى ذلك من خلال التماثيل وحلبات الصراع والمدرجات.

والعقائد المعتمدة في أصولها على ديانات سماوية كاليهودية والنصرانية بعد إدخال أصحابها التحريفات عليها أوجدت انفصاماً في الشخصية الإنسانية حيث حصرت الجانب الروحي في المعابد، وأطلقت البهيمية للأفراد خارجها فاعتمدت على الحضارات القديمة في هذا الجانب، فنتج عن هذا الانفصام حضارة مادية قاسية لا مجال للجانب الإنساني فيها.

والحضارة الشرقية الروحية أوجدت الشخصية المتقوقعة على نفسها التي لا تتطلع إلى أكثر من تعذيب الجسد لتضخيم الجانب الروحي، ولم تفكر في إعمار الأرض وإقامة أنظمة للمدنية لمعتقديها.

والإسلام هو الدين الوحيد الوسط الذي لبَّى متطلبات الروح، فهذّب وربّى من غير أن يخل بالجانب المادي سواء على مستوى متطلبات النفس البشرية أو على مستوى العطاء الحضاري للإنسانية.
أ- فأوجد لدى الفرد القناعات العقلية في جانب العقائد، فلا يحس المسلم بأي تناقض بين ما يعتقد وبين ما يستنتجه العقل السليم والتفكير السوي.
ب- وأشبع الأشواق الروحية لدى الفرد بالعبادات البدنية والمالية والشرائع التفصيلية في مجالات الحياة كلها.
جـ- وأعطى للجانب المادي حقه فلبَّى الحاجات العضوية من المأكل والمشرب، وأشبع الغرائز الفطرية بعد تهذيبها بالهدايات الربانية، وما حرّم على الإنسان شهوة مادية أو نفسية إلا وأوجد له البدائل الصحيحة السليمة من الآفات والمفاسد.
فكان نتيجة المنهج الرباني الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم الفئة المؤمنة من عباد الرحمن التي تتحدث عنها الآيات الكريمة في آخر سورة الفرقان.
وكانت الحضارة الإنسانية الربانية التي لم يعرف تاريخ البشرية لها مثيلاً نتيجة تطبيق عباد الرحمن لشرائع ربهم المنزلة.

المناسبة بين خاتمة السورة والمقطع العاشر:
لما ذكر الكفار بالفظاظة والغلظة على النبي صلى الله عليه وسلم وعداوتهم له ومظاهرتهم على خالقهم، وختم الحديث عنهم وعن عدم انتفاعهم بالآيات الكونية، فعباد الشيطان لا يتذكرون، ولا يشكرون لما لهم من القسوة. عطف على هذا المقدّر أضدادهم واصفاً إياهم بأضداد أوصافهم مبشراً لهم بضدِّ جزائهم، فقال: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ... ﴾ فأضافهم إليه رفعة لهم، وإضافتهم إلى صفة الرحمن أبلغ عندما أنكر الكفار هذه الصفة.

لقد ختمت السورة بذكر أوصاف عباد الرحمن فكأنهم الثمرة الجنية للجهاد الشاق الذي بذله الذي أُنزل عليه الفرقان، ووصفهم بخصال تتعلق بتعاملهم مع أنفسهم، وتعاملهم مع غيرهم من الناس ومعاملتهم لربهم جلَّ جلاله. عباد الرحمن هم المثل الحية الواقعية للفئة التي أراد الإسلام تكوينها بمنهجه التربوي الخاص، وهم الذي يستحقون أن يعبأ بهم رب السماوات والأرض، ولولاهم ولولا تضرعهم إلى ربهم لَمْ يعبء الرحمن أن ينزل بأسه بأهل الأرض جميعاً.

المعنى الإجمالي للمقطع:
جاءت خصال عباد الرحمن في خاتمة السورة للإشارة إلى أن القرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم قد اشتمل على الرسالة الربانية والمنهج الإلهي الذي من شأنه أن ينشئ فئة من الناس هذه أوصافها وخصائلها. وهي شهادة ضمنية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنجاح دعوته، فالمذكورون هم أتباع الفرقان عامة، ويدخل فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولاً أولياً.

وجاءت هذه الخصال على أربعة أقسام:
أ- قسم هو من التحلي بالكمالات الدينية، وهي قوله: ﴿ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63].

ب- وقسم هو من التخلي عن ضلالات أهل الشرك[1]، وهي قوله: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ﴾ [الفرقان: 68].

جـ- وقسم من الاستقامة على شرائع الإسلام، وهي قوله: ﴿ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ [الفرقان: 64 - 72].

د- وقسم من تطلب الزيادة من صلاح الحال، وهي قوله: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [2]. [الفرقان: 74].

وجاءت هذه الصفات من خلال اثني عشر خُلقاً هي من أسس الأخلاق الإسلامية[3] وهي:
1 - خلق التواضع.
2 - والحلم.
3 - والتهجد.
4 - والخوف.
5 - وترك الإسراف والإقتار.
6 - والبعد عن الشرك.
7 - واجتناب القتل.
8 - والنزاهة عن الزنى.
9 - والتوبة.
10 - وتجنب الكذب.
11 - وقبول المواعظ.
12 - والابتهال إلى الله تعالى.

ومن المستحسن أن نخص كل صفة من صفات عباد الرحمن بكلام مختصر نذكر فيه أهمية هذه الصفات للمؤمن والأسلوب القرآني في التعبير عنها:
الأول: التواضع:
وهو خُلق جبلي فيهم، وذكر الأرض في سياق التعبير عن تواضعهم للتذكير بالأصل الإنساني الذي خلق من الأرض، فمن تذكر أصله لا يمكن أن يتكبر على عباد الله، وهو يعلم أنه مخلوق من هذه التربة المحقرة التي تداس بالأقدام ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾ [سورة طه: 55].
ولذا كان من المناسب أن يذكّر المتكبر المتعجرف على عباد الله المتمرد على أحكام شرع الله، بأصله والتربة التي خلق منها. ﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ﴾ [الكهف: 37].
والتواضع خُلُق رفيع يزين أهل العلم والفضل والنسب والجاه ويزيدهم جمالاً على جمال، وبهاء وعزاً على ما هم فيه.

الثاني: الحلم:
فبالإضافة إلى الكمالات الذاتية مع أنفسهم، يتحلون بالكمالات الخلقية عند تعاملهم مع غيرهم، وعلى رأس هذه الكمالات الحلم، فإذا تعرضوا لخطاب فاقدي العلم والحكمة، ظهرت آثار علمهم وحكمتهم على تصرفهم فأعرضوا عن سفاهة الجاهلين وتركوا المقابلة بالمثل، ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]، وهو سلام متاركة وإعراض، وليس سلام تحية وترحيب، وهو شأن المؤمن في كل تصرف مع أهل السفه والطيش.

كما جاء ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ [القصص: 54 - 55].
والحُلم على أذى الآخرين والإعراض عن الجهالات من الآداب الرفيعة والمروءات المستحسنة. فالنزول إلى درجة السفهاء نوع من الطيش.

الثالث: التهجد:
وبعد ذكر تعاملهم مع أنفسهم وتعاملهم مع غيرهم، ذكرت صلتهم بخالقهم المحسن إليهم، وخصوا الليل بالصلاة والقيام ليكون أبعد عن الرياء، ولأن الخشوع فيه أكثر، كما أشارت الآيات الكريمة إلى هذه الحقيقة ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾ [المزمل: 6].
وعندما علّل الرب عزَّ وجلّ لتبوئ المتقين الجنات والعيون، ذكر قيامهم الليل: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 15 - 18].

وقد أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ورائه أمته بالاستمرار والدوام على الذكر وقيام الليل، لما في الليل من الصفاء الروحي والتلذذ بالمناجاة والابتهال: فقال تعالى: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 78 - 79]. وخص السجود بالذكر، والتقديم على القيام لأن العبد يكون أكثر قرباً من الله وهو ساجد، ولبيان المقابلة بين حالهم وحال المعاندين الذين ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ﴾ [الفرقان: 60]، فعباد الرحمن نهارهم في خشوع، وليلهم في خضوع وتذلل لباريهم عزَّ وجلّ.

الرابع: الخوف من سوء المآل والمصير:
إن المؤمن يعيش بين الخوف والرجاء، فعباد الرحمن على الرغم من صلاتهم وقيامهم بالليل، يلجؤون إلى ربهم العلي القدير أن يجنبهم سوء العاقبة، فلا يحتفلون بأعمالهم، ويخشون ردها عليهم ويتهمون أنفسهم بعدم القيام بها على الوجه الأكمل من صدق النية والتوجه والإخلاص فيها، كما قال الله تعالى عنهم: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 60 - 61].
قالت عائشة: يا رسول الله أهو الذي يزني، ويسرق، ويشرب الخمر وهو يخاف الله عزَّ وجلّ؟ فقال لها: "لا يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو مع ذلك يخاف الله عزَّ وجلّ"[4].
وفي وصف العذاب بالغرام، إشارة إلى كونه مضرة خالصة عن شوائب النفع، وهو الشأن في عذاب الكافر.
وفي وصف جهنم بأنها المقر السيِّئ والمقام البئيس، لبيان أنها مصير العصاة من المؤمنين والعتاة من الكافرين.

الخامس: ترك الإسراف والتقتير في الإنفاق:
إن الإسلام دين العدل والوسطية في جميع شؤون الحياة، والمسلم يلتزم الخلق الوسط فكلا طرفي الأخلاق ذميم، وهو التوجيه الرباني لرسوله الكريم: ﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا ﴾ [الإسراء: 29]، وإذا علمنا أن ذاك التوجيه جاء بعد النهي عن منع الحقوق الواجبة، علمنا أن الاعتدال في الإنفاق يكون في الأمور الخاصة بالاستمتاع والشهوة. ولا يسمى الإنفاق في الخير سرفاً (فلا سرف في الخير)، جاء ذلك بعد قوله تعالى: ﴿ وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾ [الإسراء: 26 - 27].

وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة، ولا يلبسون ثوباً للجمال والزينة، بل كانوا يأكلون ما يسد الجوعة، ويعين على العبادة، ويلبسون ما يستر العورة، ويكنّ من الحر والقر، قال عمر رضي الله عنه: كفى سرفاً أن لا يشتهي الرجل شيئاً إلا اشتراه فأكله[5].

قيل لأحدهم: ما البناء الذي لا سرف فيه؟ قال: ما سترك عن الشمس وأكنك من المطر، فقيل: فما الطعام الذي لا سرف فيه؟ قال: ما سد الجوعة، فقيل له: في اللباس، قال: ما ستر عورتك ووقاك من البرد.

السادس: البعد عن الشرك:
قد يستغرب المتدبر للآيات الكريمة المشتملة على صفات عباد الرحمن نفي الشرك عنهم ونفي القتل، ونزاهتهم عن الزنى، بعد ذكر تحليهم تلك الخصال العظيمة، من التواضع والحلم، وقيام الليل، والوجل من الله، والعدالة في الإنفاق، فما الحكمة في ذكر هذه القبائح العظيمة في هذا السياق؟.
أجاب بعضهم: أن الحكمة التعريض بما كان عليه أعداؤهم من الكفار، فكأنه قيل لهم: والذين طهرهم الله تعالى وبرأهم مما أنتم عليه معشر الكفار من الإشراك، وقتل النفس المحرمة كالموءودة والزنا.
وسواء أدركنا الحكمة من ذكر هذه الخصال الذميمة في السياق أو لم ندرك، فإن التذكير بالابتعاد عنها من الأمور الهامة جداً.
فإن الإشراك بالله من أكبر الكبائر، كما نص عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: "أن تدعو لله نداً وهو خلقك، قال: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك"[6]. لذا جاءت النصوص الصريحة الواضحة، أن الذنوب كلها تحت مشيئة الله تعالى وإن لم يتب منها المذنب، إن شاء غفرها وتجاوز عنها، وإن شاء عاقب عليها، إلا الشرك فلا تجاوز عن المشرك، يقول عزَّ من قائل:
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 116].

السابع: اجتناب القتل:
لقد حرم الإسلام قتل النفس المعصومة إلا في حالات تستحق النفس فيها القتل، لأنها ارتكبت من الجرائر ما أزال عصمتها، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الحالات التي تهدر فيها النفس فتستحق القتل، بقوله: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"[7].
قال بعض العلماء: إن الشرك والقتل والزنى كلها صور للقتل، فالشرك قتل للنفس بتخليدها في النار، وإذا ارتد المسلم فأشرك استحق القتل حداً، وقتل الغير قتل جلي. والنوع الثالث من القتل هو القتل الخفي بتضييع نسب الولد بالزنى.

الثامن: النزاهة عن الزنى:
إن الإسلام نظّم الغرائز لدى الفرد فلم يطلق العنان لإشباعها، كما لم يحاربها ويكبتها لأن لها دوراً وظيفياً ينبغي أن تؤديه، وعلى رأس هذه الغرائز غريزة الجنس وحب البقاء.
إن الإسلام يهدف إلى تربية مجتمع متماسك سليم من الآفات الاجتماعية، نظيفاً من اختلاط الأنساب متماسك اللبنات، فشرع الإسلام شرائعه لحماية الكليات الخمس:
الدين، العقل، العرض، النفس، المال.
فأقام صرح المجتمع الإسلامي على اللبنة الأولى (الأسرة). ووضع لها من التشريعات ولأفرادها من الحقوق والواجبات ما يجعلها نقية صافية من الشوائب، ووضع سياجاً من التشريعات للحفاظ على قدسية العلاقة الزوجية وسمى عقد الزوجية ميثاقاً غليظاً. ﴿ وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [النساء: 21].
لذا سنَّ العقوبات الشديدة على من يحاول التعرض للحياة الزوجية بسوء، فمن قال فيها مقالة سوء باتهام غيره بالزنى طالبه الإسلام بإحضار أربعة شهود على ما قال، وإلا فضرب بالسياط على ظهره، ووعيد بالعذاب الأخروي على جنايته ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 4].

ومن تجنى بتجاوز الحد والوقوع في الفاحشة، فإن كان بكراً جلد مئة جلدة، وإن كان محصناً فرجمه بالحجارة إلى الموت.
يقول عزَّ من قائل: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 2].
وحسب نظرة الإسلام الواقعية لشؤون الحياة وحل المشكلات الإنسانية على ضوء المصلحة العليا للمجتمع، سن الإسلام موضوع الملاعنة بين الزوجين حيث يتهم الزوج زوجه بالفاحشة ونظراً لولوجه وخروجه في كل وقت وليس من المكنة إحضار الشهود في مثل هذه الأحوال، لم يأمره الإسلام أن يسكت على التي خانته في أعزِّ ما يملك في عرضه وشرفه، فأجاز أن يشهد أربع شهادات بالله أنه رآها في حالة الفاحشة وإنه صادق فيما يقول، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان كاذباً في دعواه.

كما أن العدل الرباني لم يحرم المرأة من الدفاع عن عرضها وشرفها، وربما كان الزوج مفترياً عليها يريد الوقيعة بها، فأتاح لها الفرصة أن تبرز براءتها من خلال أربع شهادات بالله إنه كاذب في دعواه، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان صادقاً.

وبما أنَّ العلاقة الزوجية مبنية على المودة والرحمة والثقة المتبادلة بين الزوجين، لتكون سكناً له ويكون لها راعياً مؤتمناً، وقد انثلم كل ذلك بهذه الاتهامات والملاعنات، فكانت الخطوة المنطقية التفريق بينهما فرقة بائنة لا لقاء بعدها بينهما.
يقول تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ [النور: 6 - 9].
إن جريمة الزنى جريمة مدمرة، وما فشا هذا الوباء في مجتمع إلا وتفشت فيه أوبئة مادية وخلقية أخرى، فكان مصير المجتمع الدمار والهلاك.

فوائد منوعة:
1 - فوائد بيانية:
دلّت الأساليب البيانية على ضخامة الآثام الثلاثة (الشرك، القتل، الزنى) حيث جاءت في الآيات الكريمة أساليب بلاغية تبرز هذا الجانب منها:
أ- الاعتراض بين المبتدأ (وعباد الرحمن) وما عطف عليه، وبين الخبر الذي هو ﴿ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا... ﴾ [الفرقان: 75] على رأي بعض العلماء، بذكر جزاء هذه الأشياء الثلاثة خاصة، فدل على مزيد اهتمام بشأنها.
ب- الإشارة بأداة البعد في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ﴾ [الفرقان: 68] مع قرب المذكورات فدل على أن البعد في رتبتها.
جـ- التعبير باللقي مع المصدر المزيد الدال على زيادة المعنى في قوله ﴿ يَلْقَ أَثَامًا ﴾ فهو أبلغ من: يأثم، أو يلق إثماً، أو جزاء إثمه.
د- التقييد بالمضاعفة في قوله: ﴿ يُضَاعَفْ ﴾ ومضاعفة العذاب - والله أعلم - إتيان بعضه في إثر بعض بلا انقطاع كما كان يضاعف سيئته كذلك.
هـ- التهويل بقوله: ﴿ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ الذي هو أهول من غيره بما لا يقاس.
و- الإخبار بالخلود الذي أول درجاته أن يكون مكثاً طويلاً.
ز- التصريح بقوله: ﴿ مُهَانًا ﴾ إشارة إلى أن العذاب مضرة خالصة مقرونة بالإذلال والإهانة، وذلك ليجتمع على الجاني العذاب الجسماني والروحاني. احترازاً عما يظن أن بعض عصاة هذه الأمة الذين يريد الله تعذيبهم يعلمون أنهم ينجون ويدخلون الجنة فتكون إقامتهم مع العلم بالمآل - ليست على وجه الإهانة.
هذه سبع مؤكدات جاءت لبيان عظم هذه الذنوب الثلاثة.

فوائد في الجمع بين الآيات:
اختلف العلماء في توبة القاتل العمد، هل تقبل أو لا؟:
ذهب جمهور العلماء إلى أن للقاتل العمد توبة، كما أن لمرتكبي الكبائر عامة توبة، وقد دلَّت النصوص على ذلك فمنها:
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ﴾ [النساء: 116].
ومنها ما رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يحدث أن أناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ ﴾ [الفرقان: 68] الآية ونزلت: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ﴾ [الزمر: 53].
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو جابر أنه سمع مكحولاً يحدث قال: جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه، فقال: يا رسول الله رجل غدر وفجر، ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بيمينه، لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم فهل له من توبة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أأسلمت"، فقال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنَّ محمداً عبده ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن الله غافر لك غدراتك وفجراتك، ومبدّل سيئاتك حسنات ما كنت كذلك"، فقال: يا رسول الله وغدراتي وفجراتي؟ فقال: "وغدراتك وفجراتك"، فولى الرجل يكبر ويهلل. وروى قريباً منه الطبراني عن أبي فروة.

وذهب جمهور المفسرين إلى أن لا تعارض بين آية الفرقان وهي مكية، وبين آية النساء في قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93]. فإن آية سورة النساء مطلقة، فتحمل على من لم يتب، أما آية سورة الفرقان فإنها مقيدة بالتوبة.

روى الشيخان عن أبي سعيد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمّل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُلّ على رجل عالم فقال: إنه قتل مئة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم - أي حكماً - فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة"، وفي رواية "فأوحى الله تعالى إلى هذه أن تباعدي وإلى هذه أن تقرّبي وقال: قيسوا ما بينهما، فوجدوه إلى هذه أقرب بشبر فغفر له"[8].

فوائد في صور لطف الله العزيز اللطيف بعباده يوم القيامة، وأقوال في تبديل السيئات حسنات:
أخرج مسلم في صحيحه: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة، يؤتى برجل فيقول: نحّوا عنه كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها قال: فقال له: عملت يوم كذا: كذا وكذا، وعملت يوم كذا، كذا وكذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئاً، فيقال: فإن لك بكلِّ سيئة حسنة، فيقول: يا رب عملت أشياء لا أراها ههنا، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه"[9].
قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادية: التبديل في الدنيا، فيبدلهم بالشرك إيماناً وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنى عفة وإحصاناً، فهي بشارة من الله تعالى لهم بأنه يوفقهم لهذه الأعمال الصالحة فيستوجبوا ثوابها.
وقال الزجَّاج: السيئة تُمحى بالتوبة وتُكتب الحسنة مع التوبة، والكافر يحبط الله عمله ويثبت عليه السيئات.
وقال سعيد بن المسيب ومكحول: إن الله تعالى يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة، واحتجا بما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "ليتمنينّ أقوام أنهم أكثروا من السيئات، قيل: من هم يا رسول الله؟! قال: الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات"[10].
قال القفال والقاضي: إن الله يبدل العقاب بالثواب، فذكرهما وأراد ما يستحق بهما، وإذا حمل على ذلك كانت الإضافة إلى الله حقيقة لأن الإنابة لا يكون إلا من الله تعالى[11].
والحكمة في تكرار قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴾ [الفرقان: 71].
أن هذا القول الثاني عمم بعد التخصيص، فالاستثناء جاء في التوبة عن الشرك والقتل والزنى، أما هذا فلبيان حال من تاب من جميع المعاصي - والله أعلم.

التاسع: التوبة:
من لطف الله بعباده أن فتح لهم طريق الرجوع إلى باريهم، ولم يوئسهم من رحمته مهما عظم الذنب واستمر فيه العاصي، وتوغل في المفاسد، وفي التمرد على خالقه ورازقه.
"لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من رجل كان في سفر في فلاة من الأرض، نزل منزلاً وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فأوى إلى ظل شجرة، فوضع رأسه فنام نومة تحتها، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها، فأتى شرفاً فصعد عليه فلم ير شيئاً، ثم أتى آخر فأشرف فلم ير شيئاً، حتى اشتد عليه الحر والعطش، قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك، رفع رأسه فإذا راحلته قائمة عنده، تجر خطامها، عليها زاده طعامه وشرابه، فأخذ بخطامها فالله أشد فرحاً بتوبة المؤمن براحلته وزاده"[12].

العاشر: تجنب الكذب (الترفع عن حضور مجالس الزور واللغو):
إن من أشد أنواع الكذب: الزور، فأثر هذه الجريمة مضاعف، لأن الأصل في الشهادة أن تكون عوناً لإبراز الحق وإيصاله إلى صاحبه، فإذا حرّف الشهادة ومال بها عن حقيقتها يكون قد عطل الشهادة عن أداء دورها، والثانية يكون قد ساهم في إلحاق الظلم بآخرين وتمكين أهل الباطل من تحقيق مآربهم.

لذلك قرن الزور بالشرك في أكثر من نص في القرآن الكريم وفي السنّة النبوية:
كما في قوله تعالى: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ [الحج: 30].
روى أبو داود وابن ماجه عن خريم بن فاتك، قال: صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح، فلما انصرف - أي من صلاته - قام قائماً فقال: "عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله" ثلاث مرات، ثم قرأ قوله تعالى: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ﴾ [الحج: 30 - 31][13].

وفي حديث رواه البخاري ومسلم عن أبي بكرة أضاف إلى الإثمين العظيمين إثماً ثالثاً وهو عقوق الوالدين - حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئاً فجلس فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت"[14].

ولئن كان الذهن ينصرف أول ما يسمع الزور إلى شهادة الزور، فإن إطلاق الزور في الآيات الكريمة تعم كل أصنافه، ولذلك قال بعض المفسِّرين: الزور يعم كل باطل عن جهة الحق. فكأن الآية الكريمة نصت في وصف عباد الرحمن أنهم لا يشهدون مجالس الباطل، ولعلَّ ذكر مرورهم كراماً على اللغو يؤيد هذا التعميم، فإن المؤمن يكرم نفسه عن مجالس اللهو والباطل، وينزهها عن مشاركة السفهاء في لغوهم، يقول عزَّ من قائل: ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ﴾ [القصص: 55].

ولربما فوجئ المرء بمجلس انقلب أهله إلى الخوض في الباطل، أو تناول قضايا إسلامية بالاستهزاء والتطاول، أو الاستهتار بأحكام الشرع، أو النيل من شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، أو الحط من أقدار صحابته الكرام أو اتهام دعاة الإسلام بالقدح والتجريح فكلّ ذلك ينبغي الإعراض عنه، ومغادرة المجلس ومقاطعته إن لم يستطع تغيير مجرى الحديث، يقول جلَّ جلاله: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 68]. إن المؤمن يرى في الوقت رأس ماله الذي إذا فات لا يعوض، فالوقت الحياة، إنه يضنّ به أن يقضيه فيما لا فائدة فيه ومجالس اللغو أقل ما يقال فيها: إنها للثرثرة والعبث وضياع الوقت والغفلة، لذا كان من شأن المؤمنين عباد الرحمن ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾ [الفرقان: 72] مترفعين عنها.

الحادي عشر: قبول المواعظ:
إن من صفات المؤمنين عباد الرحمن أخذ العظة والعبرة من كلِّ شيء، وعلى رأس ما يتعظ به آيات الله المنزلة على رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا سمع آيات الذكر الحكيم تتلى، أو كان على وضع فيه عليه ملحظ فذكّره أحد الناصحين بآيات من كلام الله، لم يردها عليه بل وعيها وفهم معناها متدبراً لما تهدي إليه، مقارناً حاله على ضوء هداية الآية بما ينبغي أن يكون الحال عليه، ثم عدّل من سلوكه وفعله وقوله. ولم تأخذه العزة بالإثم فيركب رأسه ويرد على ناصحه بما لا يليق. فكم من مخطئ أو متساهل في زماننا عندما يقال له: يا فلان اتق الله، يرد عليه ويقول بل أنت اتق الله، فأنا على الصواب. قبل أن يتدبر عمله ويفكر في كلمة (اتق الله) لقد خاطب الله جلّ جلاله رسولَه صلى الله عليه وسلم المعصوم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ﴾ [الأحزاب: 1].

كما أن آيات ربهم تشمل الآيات الكونية، التي يستدل من خلال مراقبتها ودراسة أوضاعها وهيئاتها على النظام التام الذي يسود أجزاءه ومجراته وأفلاكه ونجومه وكواكبه. ويستدل من خلال ذلك على الخالق الذي أبدع هذا الكون، وأنه الواحد الذي يتولى شؤونه: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [الأنبياء: 22].

إن الكافر كالبهيمة تعلف ما يقدم لها من غير بحث عن المصدر الذي زودها به، ومن غير تدبر للمنعم الذي هيأ له أسباب الرزق ومكنه منه، ولا يلتفت إلى ما حوله إلا بما يتعلق بشهوتي الفرج والبطن، فهو أصم أعمى عن هدايات تلك الآيات ما كان منها وحياً وما كان آية مرئية أو مسموعة مما يحيط به من حوله.
﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 44].
إن شأن المؤمن شأن أنبياء الله ورسله الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ [مريم: 58].

الثاني عشر: الابتهال إلى الله تعالى:
من الصفات الحميدة بل من أصول العبادة الابتهال إلى الله تعالى بالدعاء والالتجاء إليه في كل شيء، فالدعاء مخ العبادة، ولئن كان الدعاء مرغوباً فيه في شؤون الحياة الدنيا ما قل منه وما كثر، وما دق منه وجلّ. وما عز منه أو توفر، فإن الدعاء لأمور الآخرة أهم وأعظم، ولئن كانت القضايا التي تجمع بين زينة الحياة الدنيا وبين أجر الآخرة تكون في مقام رفيع لدى
الإنسان، فإن على رأس كل ذلك الذرية الصالحة فبها تقر الأعين في الحياة الدنيا وهي استمرار لعمل المرء بعد مماته وانقطاع عمله.
ففي الذرية الصالحة حياة مديدة للآباء والأمهات، وعمل صالح مستمر، كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده، أو صدقة جارية"[15].
فكيف إذا رزق الإنسان بولد صالح، فعلَّمه علوم الإسلام وهيأه لنشر العلم والدعوة إليه.
لذا كان من دعوة الأنبياء أن لا يذرهم فرادى من غير ذرية ترثهم في علومهم وآدابهم.
فلا غرو أن تكون دعوة عباد الرحمن منصبة على هذه الوراثة الربانية ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].
إنهم - كما يقول عكرمة - لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالاً وإنما أرادوا أن يكونوا مطيعين، ولا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولداً أو أخاً أو حميماً مطيعاً لله.

روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً فمر به رجل فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوددنا أنا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت، فاستغضب المقداد، فجعلت أعجب لأنه ما قال إلا خيراً. ثم أقبل إليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضراً غيّبه الله عنه، لا يدري، لو شهده كيف يكون فيه والله لقد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوام أكبهم الله على مناخرهم في جهنم، لم يجيبوه ولم يصدقوه، أو لا تحمدون الله إذ أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعرفون إلا ربكم، مصدقين بما جاء به نبيكم، قد كفيتم البلاء بغيركم؟ لقد بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم على أشر حال بعث عليها نبياً من الأنبياء، في فترة جاهلية، ما يرون أن ديناً أفضل من عبادة الأوثان، فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل، وفرق بين الوالد وولده، إن كان الرجل يرى والده وولده وأخاه كافراً، وقد فتح الله قفل قلبه للإيمان، يعلم أنه إن هلك دخل النار، فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار، وأنها للتي قال الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾ [الفرقان: 74][16].

والرياسة في الدين مرغوب فيها بموجب هذه الآية الكريمة، فدعاء عباد الرحمن لم يقتصر على طلب الذرية الصالحة التي تخلفه من بعده وتستمر حياته من خلالهم، بل يدعون أن يكونوا هم وذرياتهم أئمة في الدين يقتدى بهم، هداة مهتدين يتعدى نفعهم وخيرهم إلى غيرهم من الناس.
لذا كان دعاء خليل الرحمن لربه ﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ ﴾ [الشعراء: 84].
هذه صفات عباد الرحمن وأخلاقهم التي وعدهم ربهم عليها الدرجات الرفيعة في الجنة، بسبب صبرهم على ما لاقوه في سبيل تمسكهم بتلك المبادئ وتحليهم بتلك الخصال، فكلّ من التزم مبدأ وثبت على منهج، لا بد أن يلقى في سبيل ذلك أذى ممن لا يلتزم ولا يسلك منهجه. لذلك لم يذكر الله سبحانه وتعالى المصبور عنه ليعم كل نوع من أنواع الصبر.

وفي تلك الغرف العالية يكرمون بالدعاء لهم بالتعمير والحياة الدائمة والدعاء بالسلامة، وكلتا الدعوتين ترجعان إلى نعيم الجنة الباقي الذي لا ينقطع، والذي خلص من شوائب الضرر والكدورات.
هذا ما قاله بعض المفسرين على أن التحية والسلام تلقى عليهم من الملائكة، ولعله أرفع لشأن عباد الرحمن وأكرم لقدرهم أن تكون التحية والسلام من الله جلَّ جلاله، يتوج بها النعيم المقيم الذي يتقلبون فيه في غرف الجنة كما صرح بذلك في قوله تعالى: ﴿ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾ [يس: 58].
والأمن من زوال النعمة عنهم أو زوالهم عنها، أو انقطاعها أمر أساسي لإدخال الطمأنينة إلى قلوبهم كما تقدم في السياق في هذه السورة: ﴿ قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا * لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا ﴾ [الفرقان: 15 - 16]. فالجنة خالدة بنعيمها عليهم، وهم خالدون فيها لا يزولون عنها. وهذا منتهى إدخال الأمن والطمأنينة إلى القلوب[17].
إن المسكن الدنيوي والإقامة المرفهة مهما كانت متكاملة المرافق واسعة الأرجاء محققة لرغبات ساكنها، فكونها معرضة لآفات التقادم والتآكل والخراب والزوال لا تجعل ساكنها قرين العين بها، أما جنات الخلد فحسنت مستقراً ومقاماً ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ﴾ [الكهف: 108].
إن الذي لا يرفع لهدايات القرآن رأساً ولا يلقي لها بالاً هو أهون عند الله من أن يجعل له وزناً ومقداراً، وأن يكترث ببقائه أو هلاكه، فلولا التجاؤهم إلى الله في الشدائد، ولولا أن الله قطع على نفسه بإرجاء عقوبتهم إلى الآخرة: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الأنفال: 33].
لولا ذلك لأنزل عليهم عذاب الاستئصال ولا يبالي بشأنهم ولا يعبأ بهم، لقد استحقوه بأفعالهم وأقوالهم التي تؤدي بهم إلى البوار.

مناسبة الخاتمة لمحور السورة:
قلنا: إن خاتمة السورة التي اشتملت على صفات عباد الرحمن بمثابة النتيجة لمحور السورة، فالمحور اشتمل على المعجزة - القرآن الكريم - والرسول صلى الله عليه وسلم الذي أنزلت عليه المعجزة.
فالمعجزة الرسالة وضعت المنهج الرباني الذي دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في العقائد والسلوك والتعامل مع الآخرين.
والرسول صلى الله عليه وسلم طبّق هذا المنهج في حياته العملية فكان النموذج العملي لهذا المنهج الرباني. ودعا القوم إلى الالتزام به وناضل في سبيل ذلك ﴿ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ﴾ [الفرقان: 52].
ومن خلال ذلك جاءت افتراءات القوم على المعجزة (القرآن) وعلى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم وبالتالي جاء الدفاع عن المعجزة وعن صاحبها، ورد تلك الافتراءات.

وختم السورة بذكر صفات عباد الرحمن فيه أكثر من دلالة، منها:
سلامة المنهج وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته، حيث أدى صبره ودعوته إلى الالتزام بهدايات الرسالة إلى هذه الفئة المؤمنة الربانية. والوصف يشمل المؤمنين إلى يوم القيامة ويدخل فيهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولاً أولياً.
إن هذه الصفوة من البشرية هي التي يعبأ بها الرحمن جلَّ جلاله، ولولا وجودهم لكان لزاماً أن ينزل عقوبته بأهل الأرض ولا يبالي بهم ولا يكترث لوجودهم.
وفي الخاتمة تسرية وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن يتوقع أن تثمر جهوده مثل هذه الثمار اليانعة وهذا النتاج الطيِّب الكريم يصبر على ما يعترض سبيله من عقبات وأشواك ويبذل المزيد من الجهد للوصول إلى النتائج الطيبة.

أختى المسلمة ...

ما من حكم  رباني إلا و له من الحكم و الفوائد و الثمرات مالا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى و ما ذاك بغريب  ولا بعجيب لأن الذي شرع هو الحكيم الخبير العليم القدير  يقول الحق تبارك و تعالى : "  وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ "  1 فذكر الله عز و جل العلة لوجوب الاعتزال كون دم الحيض أذى .

و الأذى في اللغة : ما يكره من كل شئ .

وقال عطاء و قتادة و السدي : أذى : أي قذر .

 

أختي المسلمة ...

أليس دم الحيض كريه الرائحة ؟ فهو إذى إذن .

أليس دم الحيض يحتدم ؟! فهو بذلك أذى .

فقوله تعالى : " قُلْ هُوَ أَذًى "  هو شئ تتأذى به المرأة و غيرها أي برائحة دم الحيض ، و الأذى كناية عن القذر على الجملة ، و يطلق على القول المكروه 2 ، لكن ماذا قال الطب الحديث عن الأذى ؟

 

أختي المسلمة  ...

يحدث أثناء دم الحيض أن الجسم يفتت الغشاء المبطن للرحم ، و يقذف به كاملاً مع الدم ، و بفحص دم الحيض تحت المجهر  و جد أن به قطع من الغشاء المبطن للرحم .

 

ومن ثم فإن الرحم يكون ملتهبا جداً ، متقرحا ً ، أو يكون أشبه بالمنطقة  التي سلخ جلدها فتقل مقاومته لعدوان الميكروبات التي قد تغزوه ، و يكون بيئة صالحة ، مناسبة جداً لتكاثر و نمو هذه الميكروبات ، لأن الدم كما هو معلوم أفضل بيئة لذلك .

 

فمن أجل ذلك يمنع الوطء أثناء الحيض ، لأنه يسمح بدخول الميكروبات ، أو أنه يدخل الميكروبات إلى الرحم الضعيف ، و تكون المقاومة للغزو الجرثومي في أضعف و أدنى حالاتها ، كما تقول المواد  المطهَّرة  أثناء الحيض .

 

أي أن أجهزة المقاومة التي تعمل في الحالات المعتادة تتوقف أثناء الحيض ، فتنمو الميكروبات و تتكاثر و يكون الأذى الذي نهانا الخالق الحكيم عنه .

 

 ليس هذا فحسب بل قد تمتد الالتهابات إلى قناتي الرحم فتسدهما ، أو تؤثر على شعيراتهما التي تدفع البويضة من المبيض إلى الرحم . و انسداد قناتي الرحم باب واسع إلى العقم ، أو إلى الحمل خارج الرحم ، و هو من أشد أنواع الأذى لأنه يؤدي إلى انفجار هذه القناة ، فتسيل الدماء في أقتاب البطن فَتـُحْدِثُ الوفاة  .

 

و قد يمتد الالتهاب إلى القناة البولية و بالتالي إلى الجهاز البولي الذي يلتهم عنق الرحم .

 

 

 أما بالنسبة إلى الرجل فإن الأذى محقق .

حيث إن هذا يؤدي إلى تكاثر الميكروبات و التهاب قناة مجرى البول و نمو الميكروبات السبحية و العنقودية فيها ، و هي أذى كذلك لأنه ليس فيه مراعاة لحالة المرأة النفسية و الجنسية .3

 

فالحيض أذى للمرأة كما نص عليه القرآن العزيز وكما أثبت الطب الحديث ذلك فيما بعد وكما يرى في الواقع .

 

فقد يسبب الحيض للمرأة صداعا نصفيا و فقراً  في الدم فضلاً عما يسببه من إزعاجات نفسية و شعورية و مزاجية و آلام و أوجاع ، فتصاب المرأة بشئ من الكسل و الفتور و انخفاض ضغط الدم . و يصحب ذلك عزوف جنسي لا محالة من ذلك ، و لهذا و غيره نهى الإسلام عن إتيانها أثناء الحيض .

حكم من مات من أطفال المشركين
الطفل الذي ولد من أبوين كافرين ومات قبل بلوغه سن التكليف هل هو مسلم عند الله أم لا؟ علماً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل مولود يولد على الفطرة …)) الحديث.
وإذا كان مسلماً فهل يجب على المسلمين أن يغسلوا جنازته ويصلوا عليه؟ أفيدونا مأجورين.

إذا مات غير المكلف بين والدين كافرين فحكمه حكمهما في أحكام الدنيا فلا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، أما في الآخرة فأمره إلى الله سبحانه، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لما سئل عن أولاد المشركين قال: ((الله أعلم بما كانوا عاملين)) وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن علم الله سبحانه فيهم يظهر يوم القيامة وأنهم يمتحنون كما يمتحن أهل الفترة ونحوهم، فإن أجابوا إلى ما يطلب منهم دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار، وقد صحت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في امتحان أهل الفترة يوم القيامة، وهم الذين لم تبلغهم دعوة الرسل ومن كان في حكمهم كأطفال المشركين لقول الله عز وجل: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا[1]، وهذا القول هو أصح الأقوال في أهل الفترة ونحوهم ممن لم تبلغهم الدعوة الإلهية، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم وجماعة من السلف والخلف رحمة الله عليهم جميعاً.
وقد بسط العلامة ابن القيم رحمه الله الكلام في حكم أولاد المشركين وأهل الفترة في آخر كتابه: (طريق الهجرتين) تحت عنوان (طبقات المكلفين).
فمن أحب أن يطلع عليه فليفعل فإنه مفيد جداً وبالله التوفيق.








هل يلزم من أعلن إسلامه أن يغير اسمه السابق مثل جورج وجوزيف وغيرهما؟

لا يلزمه تغيير اسمه، إلا إن كان معبدا لغير الله، ولكن تحسينه مشروع ، فكونه يحسن اسمه من أسماء أعجمية إلى أسماء إسلامية فهذا مناسب وطيب، أما الوجوب فلا، أو إن كان اسمه عبد المسيح وأشباهه من الأسماء المعبدة لغير الله فالواجب تغييره؛ لأنه من التعبيد لغير الله بإجماع أهل العلم، كما نقل ذلك أبو محمد بن حزم رحمه الله. وبالله التوفيق.


السؤال:
يحتفل المصريون بيوم شم النسيم، فما هو أصل هذا الاحتفال، وما رأي الدين فيه؟

الجواب:

النسيم هو: الريح الطيبة، وشمه يعني: استنشاقه، وهل استنشاق الريح الطيبة له موسم معين حتى يتخذه الناس عيدًا يخرجون فيه إلى الحدائق والمزارع، ويتمتعون بالهواء الطلق والمناظر الطبيعية البديعة، ويتناولون فيه أطايب الأطعمة؛ أو أنواعًا خاصة منها لها صلة بتقليد قديم أو اعتقاد معين؟ ذلك ما نحاول أن نجيب عليه فيما يأتي:

كان للفراعنة أعياد كثيرة، منها: أعياد الزراعة التي تتصل بمواسمها، والتي ارتبط بها تقويمهم إلى حد كبير؛ فإن لسَنَتِهم الشمسية التي حددوها باثني عشر شهرًا ثلاثة فصول، كل منها أربعة أشهر، وهى: فصل الفيضان، ثم فصل البذر، ثم فصل الحصاد. ومن هذه الأعياد: عيد "النيروز" الذي كان أول سنتهم الفلكية بشهورها المذكورة وأسمائها القبطية المعروفة الآن.

وكذلك العيد الذي سمى في "العصر القبطي" بـ"شم النسيم"، وكانوا يحتفلون به في الاعتدال الربيعي عقب عواصف الشتاء وقبل هبوب الخماسين، وكانوا يعتقدون أن الخليقة خُلقت فيه، وبدأ احتفالهم به عام 2700 ق.م، وذلك في يوم 27 برمودة، الذي مات فيه الإِله "ست" إله الشر، وانتصر عليه إله الخير، وقيل: منذ خمسة آلاف سنة قبل الميلاد.

وكان من عادتهم في شم النسيم الاستيقاظ مبكرين، والذهاب إلى النيل للشرب منه وحمل مائه؛ لغسل أراضي بيوتهم التي يزينون جدرانها بالزهور.

وكانوا يذهبون إلى الحدائق للنزهة، ويأكلون خضرًا كالملوخية والملانة والخس، ويتناولون الأسماك المملحة التي كانت تصاد من "بحر يوسف"، وتملح في مدينة "كانوس"، وهي "أبو قير" الحالية كما يقول المؤرخ "سترابون"، وكانوا يشمون البصل، ويعلقونه على منازلهم وحول أعناقهم للتبرك.

وإذا كان لهم مبرر للتمتع بالهواء والطبيعة وتقديس النيل الذي هو عماد حضارتهم، فإن تناولهم لأطعمة خاصة بالذات، واهتمامهم بالبصل لا مبرر له إلا خرافة آمنوا بها، وحرصوا على تخليد ذكراها.

لقد قال الباحثون:

"إن أحد أبناء الفراعنة مرض، وحارت الكهنة في علاجه، وذات يوم دخل على فرعون كاهن نوبي معه بصلة أمر بوضعها قرب أنف المريض، بعد تقديم القرابين لإِله الموت "سكر" فشفي، وكان ذلك في بداية "الربيع"، ففرح الأهالي بذلك، وطافوا بالبلد والبصل حول أعناقهم كالعقود حول معابد الإله "سكر".

وبمرور الزمن جدت أسطورة أخرى تقول: "إن امرأة تخرج من النيل في ليلة "شم النسيم" يدعونها: "ندَّاهة" تأخذ الأطفال من البيوت وتغرقهم، وقالوا: إنها لا تستطيع أن تدخل بيتـًا يعلق عليه البصل". محمد صالح - الأهرام: 30/ 4/1962م.

ثم حدث في التاريخ المصري حادثان، أولهما: يتصل باليهود، والثاني: بالأقباط، أما اليهود فكانوا قبل خروجهم من "مصر" يحتفلون بعيد "الربيع" كالمصريين، فلما خرجوا منها؛ أهملوا الاحتفال به، كما أهملوا كثيرًا من عادات المصريين، شأن الكاره الذي يريد أن يتملص من الماضي البغيض وآثاره.

لكن العادات القديمة لا يمكن التخلص منها نهائيًّا وبسهولة، فأحب اليهود أن يحتفلوا بـ"الربيع"، لكن بعيدًا عن "مصر" وتقويمها، فاحتفلوا به كما يحتفل البابليون، واتبعوا في ذلك تقويمهم وشهورهم.

فالاحتفال بـ"الربيع" كان معروفـًا عند الأمم القديمة من الفراعنة والبابليين والأشوريين، وكذلك عرفه الرومان والجرمان، وإن كانت له أسماء مختلفة، فهو عند الفراعنة: عيد "شم النسيم"، وعند البابليين والأشوريين: عيد "ذبح الخروف"، وعند اليهود: عيد "الفصح"، وعند الرومان: عيد "القمر"، وعند الجرمان: عيد "إستر" إلهة "الربيع".

وأخذ احتفال اليهود به معنى دينيًّا هو شكر الله على نجاتهم من فرعون وقومه، وأطلقوا عليه اسم: "عيد بساح"؛ الذي نقل إلى العربية باسم: "عيد الفصح" وهو: الخروج، ولعل مما يشير إلى هذا حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ: رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟) فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا، فَنَحْنُ نَصُومُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ). فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. وفي رواية: "فَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ" (رواه مسلم).

غير أن اليهود جعلوا موعدًا غير الذي كان عند الفراعنة، فحددوا له يوم البدر الذي يحل في الاعتدال الربيعي أو يعقبه مباشرة.

ولما ظهرت المسيحية في "الشام" احتفل "المسيح" وقومه بعيد "الفصح" كما كان يحتفل اليهود. ثم تآمر اليهود على صلب "المسيح"، وكان ذلك يوم الجمعة 7 من أبريل سنة 30 ميلادية، الذي يعقب عيد "الفصح" مباشرة، فاعتقد المسيحيون أنه صلب في هذا اليوم، وأنه قام من بين الأموات بعد الصلب في يوم "الأحد" التالي.

فرأى بعض طوائفها أن يحتفلوا بذكرى "الصلب" في يوم "الفصح"، ورأت طوائف أخرى أن يحتفلوا باليوم الذي قام فيه "المسيح" من بين الأموات، وهو عيد "القيامة" يوم "الأحد" الذي يعقب عيد الفصح مباشرة، وسارت كل طائفة على رأيها، وظل الحال على ذلك حتى رأى "قسطنطين الأكبر" إنهاء الخلاف في "نيقية" سنة 325 ميلادية، وقرر توحيد العيد، على أن يكون في أول أحد بعد أول بدر يقع في الاعتدال الربيعي أو يعقبه مباشرة، وحسب الاعتدال الربيعي وقتذاك، فكان بناء على حسابهم في يوم 21 من مارس "25 من برمهات"، فأصبح عيد "القيامة" في أول أحد بعد أول بدر، وبعد هذا التاريخ أطلق عليه اسم: عيد "الفصح المسيحي"؛ تمييزًا له عن عيد "الفصح اليهودي"، هذا ما كان عند اليهود وتأثر المسيحيين به في عيد "الفصح".

أما الأقباط وهم المصريون الذين اعتنقوا المسيحية فكانوا قبل مسيحيتهم يحتفلون بعيد شم النسيم كالعادة القديمة، أما بعد اعتناقهم للدين الجديد فقد وجدوا أن للاحتفال بعيد "شم النسيم" مظاهر وثنية لا يقرها الدين، وهم لا يستطيعون التخلص من التقاليد القديمة، فحاولوا تعديلها أو صبغها بصبغة تتفق مع الدين الجديد، فاعتبروا هذا اليوم يوما مباركًا بدأت فيه الخليقة، وبشَّر فيه "جبريل" "مريم العذراء" بحملها للمسيح، وهو اليوم الذي تقوم فيه القيامة ويحشر الخلق، ويذكرنا هذا بحديث رواه مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ) رواه مسلم.

فاحتفل "أقباط مصر" بـ"شم النسيم" قوميًّا باعتباره عيد "الربيع"، ودينيًّا باعتباره عيد البشارة، ومزجوا فيه بين التقاليد الفرعونية والتقاليد الدينية، وكان الأقباط يصومون أربعين يومًا لذكرى الأربعين التي صامها "المسيح" -عليه السلام-، وكان هذا الصوم يبدأ عقب عيد "الغطاس" مباشرة، فنقله البطريرك الإِسكندري ديمتريوس الكرام، وهو البطريرك الثامن عشر "188 - 234م" إلى ما قبل عيد "القيامة" مباشرة، وأدمج في هذا الصوم صوم "أسبوع الآلام"، فبلغت عدته خمسة وخمسين يومًا، وهو الصوم الكبير.

وعمَّ ذلك في أيام مجمع نيقية "325م"، وبهذا أصبح عيد "الربيع" يقع في أيام الصوم -إن لم يكن في "أسبوع الآلام"-، فحرم على المسيحيين أن يحتفلوا بهذا العيد كعادتهم القديمة في تناول ما لذ وطاب من الطعام والشراب، ولما عزَّ عليهم ترك ما درجوا عليه زمنـًا طويلاً؛ تخلصوا من هذا المأزق، فجعلوا هذا العيد عيدين، أحدهما: عيد "البشارة"، يحتفل به دينيًّا في موضعه، والثاني: عيد "الربيع"، ونقلوه إلى ما بعد عيد "القيامة"؛ لتكون لهم الحرية في تناول ما يشاءون، فجعلوه يوم الاثنين التالي لعيد القيامة مباشرة، ويسمى كنسيًّا: "اثنين الفصح" كما نقل الجرمانيون عيد "الربيع"؛ ليحل في أول شهر "مايو".

من هذا نرى أن "شم النسيم" بعد أن كان عيدًا فرعونيًّا قوميًّا يتصل بالزراعة جاءته مسحة دينية، وصار مرتبطـًا بـ"الصوم الكبير"، وبعيد "الفصح" أو "القيامة"، حيث حدد له وقت معين قائم على اعتبار التقويم الشمسي والتقويم القمري معًا، ذلك أن الاعتدال الربيعي مرتبط بالتقويم الشمسي، والبدر مرتبط بالتقويم القمري، وبينهما اختلاف كما هو معروف، وكان هذا سببًا في اختلاف موعده من عام لآخر، وفى زيادة الاختلاف حين تغير حساب السنة الشمسية من التقويم اليولياني إلى التقويم الجريجوري.

وبيان ذلك:

أن التقويم القمري كان شائعًا في "الدولة الرومانية"، فأبطله "يوليوس قيصر"، وأنشأ تقويمًا شمسيًا، قدر فيه السنة بـ 25،365 يومًا، واستخدم طريقة السنة الكبيسة مرة كل أربع سنوات، وأمر "يوليوس قيصر" باستخدام هذا التقويم رسميًّا في عام 708 من تأسيس "روما"، وكان سنة 46 قبل الميلاد، وسمى بـ"التقويم اليولياني".

واستمر العمل به حتى سنة 1582م حيث لاحظ الفلكيون في عهد بابا "روما" جريجوريوس الثالث عشر خطأ في الحساب الشمسي، وأن الفرق بين السنة المعمول بها والحساب الحقيقي هو 11 دقيقة، 14 ثانية، وهو يعادل يومًا في كل 128 عامًا، وصحح البابا الخطأ المتراكم فأصبح يوم 5 من أكتوبر سنة 1582 هو يوم 15 أكتوبر سنة 1582م وهو التقويم المعروف بـ"الجريجوري" السائد الآن.

وعندما وضع الأقباط تاريخهم وضعوه من يوم 29 من أغسطس سنة 284م، الذي استشهد فيه كثيرون أيام "دقلديانوس"؛ جعلوه قائمًا على الحساب اليولياني الشمسي، لكن ربطوه دينيًّا بالتقويم القمري، وقد بني على قاعدة وضعها الفلكي "متيون" في القرن الخامس قبل الميلاد، وهو أن كل 19 سنة شمسية تعادل 235 شهرًا قمريًا، واستخدم الأقباط هذه القاعدة منذ القرن الثالث الميلادي، وقد وضع قواعد تقويمهم المعمول به إلى الآن البطريرك "ديمتريوس الكرام"، وساعده في ذلك الفلكي المصري "بطليموس".

وبهذا يحدد عيد "القيامة" الذي يعقبه "شم النسيم" بأنه الأحد التالي للقمر الكامل "البدر" الذي يلي الاعتدال الربيعي مباشرة، وقد أخذ الغربيون الحساب القائم على استخدام متوسط الشهر القمري لحساب ظهور القمر الجديد، وأوجهه لمئات السنين "وهو المسمى بحساب الألقطي"، وطبقوه على التقويم "الروماني اليولياني"، فاتفقت الأعياد المسيحية عند جميع المسيحيين كما كان يحددها التقويم القبطي، واستمر ذلك حتى سنة 1582م حين ضبط الغربيون تقويمهم بالتعديل "الجريجوري". ومن هنا اختلف موعد الاحتفال بعيد "القيامة" و"شم النسيم".

أستمحيك عفوًا -أيها القارئ الكريم-؛ إذ أتعبتك بذكر تطورات التقويم وتغير مواعيد الأعياد، إذ قد لخصتها من عدة مواضع من كتاب "تاريخ الحضارة المصرية"، ومن بحث للدكتور عبد الحميد لطفي في مجلة الثقافة "عدد 121" لسنتها الثالثة في 22/4/ 1941م ومن منشورات بالصحف: الجمهورية 15/4/1985، الأهرام 20/4/1987، 11/4 /1988، فإني قصدت بذلك أن تعرف أن عيد "الربيع" الحقيقي ثابت في موعده كل عام؛ لارتباطه بالتقويم الشمسي.

أما عيد "شم النسيم" فإنه موعد يتغير كل عام؛ لاعتماده مع التقويم الشمسي على الدورة القمرية، وهو مرتبط بالأعياد الدينية غير الإسلامية، ولهذه الصفة الدينية زادت فيه طقوس ومظاهر على ما كان معهودًا أيام الفراعنة وغيرهم، فحرص الناس فيه على أكل البيض والأسماك المملحة، وذلك ناشئ من تحريمها عليهم في الصوم الذي يمسكون فيه عن كل ما فيه روح أو ناشئ منه، وحرصوا على تلوين البيض بالأحمر، ولعل ذلك؛ لأنه رمز إلى دم "المسيح" على ما يعتقدون، وقد تفنن الناس في البيض وتلوينه حتى كان لبعضه شهرة في التاريخ.

فقد قالوا: إن أشهر أنواع البيض بيضة "هنري الثاني" التي بعث بها إلى "ديانادي بواتييه" فكانت علبة صدف على شكل بيضة بها عقد من اللؤلؤ الثمين، كما بعث "لويس الرابع عشر" للآنسة "دي لا فاليير" علبة بشكل بيضة ضمنها قطعة خشب من الصليب الذي صلب عليه المسيح، و"لويس الخامس عشر" أهدى خطيبته "مدام دي باري" بيضة حقيقية من بيض الدجاج مكسوة بطبقة رقيقة من الذهب، وهى التي قال فيها الماركيز "بوفلر" لو أنها أكلت؛ لوجب حفظ قشرتها "مهندس/ محمد حسن سعد - الأهرام 25 من أبريل 1938.

وقيصر روسيا "الإِسكندر الثالث" كلف الصائغ "كارل فابرج" بصناعة بيضة لزوجته 1884م، استمر في صنعها ستة أشهر كانت محلاة بالعقيق والياقوت، وبياضها من الفضة وصفارها من الذهب، وفى كل عام يهديها مثلها حتى أبطلتها "الثورة الشيوعية" 1917م.

وبعد، فهذا هو عيد "شم النسيم"، الذي كان قوميًّا ثم صار دينيًّا، فما حكم احتفال المسلمين به؟؟

لا شك أن التمتع بمباهج الحياة من أكل وشرب وتنزه أمر مباح؛ مادام في إطار المشروع، الذي لا ترتكب فيه معصية، ولا تنتهك حرمة، ولا ينبعث من عقيدة فاسدة، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (المائدة:87)، وقال: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف:32).

لكن هل للتزين والتمتع بالطيبات يوم معين أو موسم خاص لا يجوز في غيره؟!

وهل لا يتحقق ذلك إلا بنوع معين من المأكولات والمشروبات، أو بظواهر خاصة؟!

هذا ما نحب أن نلفت الأنظار إليه، إن الإِسلام يريد من المسلم أن يكون في تصرفه على وعي صحيح وبُعد نظر، لا يندفع مع التيار، فيسير حيث يسير، ويميل حيث يميل، بل لابد أن تكون له شخصية مستقلة فاهمة، حريصة على الخير، بعيدة عن الشر والانزلاق إليه، وعن التقليد الأعمى، لا ينبغي أن يكون كما قال الحديث إمَّعة، يقول: إن أحسن الناس؛ أحسنتُ، وإن أساءوا؛ أسأتُ، ولكن يجب أن يوطـِّن نفسه على أن يحسن؛ إن أحسنوا، وألا يسيء؛ إن أساءوا.

وذلك حفاظـًا على كرامته واستقلال شخصيته، غير مبالٍ بما يوجه إليه من نقد أو استهزاء، والنبي -صلى الله عليه وسلم- نهانا عن التقليد الذي من هذا النوع فقال: (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ) (متفق عليه).

فلماذا نحرص على "شم النسيم" في هذا اليوم بعينه والنسيم موجود في كل يوم؟! إنه لا يعدو أن يكون يوماً عاديًّا من أيام الله؛ حكمه كحكم سائرها، بل إن فيه شائبة تحمل على اليقظة والتبصر والحذر، وهى: ارتباطه بعقائد لا يقرها الدين، حيث كان الزعم أن "المسيح" قام من قبره، وشم نسيم الحياة بعد الموت.

ولماذا نحرص على طعام بعينه في هذا اليوم، وقد رأينا ارتباطه بخرافات أو عقائد غير صحيحة، مع أن الحلال كثير وهو موجود في كل وقت، وقد يكون في هذا اليوم أردأ منه في غيره أو أغلى ثمنـًا؟!

إن هذا الحرص يبرر لنا أن ننصح بعدم المشاركة في الاحتفال به، مع مراعاة أن المجاملة على حساب الدين، والخلق والكرامة ممنوعة، لا يقرها دين، ولا عقل سليم، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (مَنِ الْتَمَسَ رِضَاءَ اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ؛ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَاءَ النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ؛ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

الربا في نظر الإسلام جريمة اجتماعية ودينية واقتصادية كبرى وهو من أمور الجاهلية لما له من آثار سلبية علي الفرد والمجتمع ، ينقسم الربا الذي حرمه الإسلام إلي نوعين، الأول هو ربا النسيئة وكان منتشرا في الجاهلية وهو أن يقوم شخص بإقراض أخر مبلغ معين من المال علي أن يسدده في موعد محدد بزيادة ما، الثاني : ربا الفضل وهو الزيادة في أحد العوضين عند المماثلة كأن يبيعه أردب قمح بأردب ونصف، فهو عبارة عن بيع مع زيادة أحد العوضين على الآخر مع المماثلة وهناك اتفاق بين جمهور العلماء علي تحريم الربا في القسمين.

أدلة تحريم الربا في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية

  •  قال تعالى:{الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (275) يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم}، [سورة: البقرة - 276:275]
  •   قال تعالى: (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) [سورة: البقرة - 278]
  •   قال تعالى:  (يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم) [سورة: البقرة - 276]
  •   قال تعالى: (يآ أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون) [سورة: آل عمران - 130]
  •   قال تعالى: (ومآ آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله ومآ آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) [سورة: الروم - 39].
  • تحريم الربا في السنة

  •   ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة تبين خطورة الربا والتعامل به في الإسلام، فعن عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " لعن رسول الله آكل الربا وموكله" وفي رواية أخرى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه "..... وكاتبه، وشاهديه، وقال هم سواء".
  • عن عبد الله بن حنظلة قال: قال رسول الله : "درهم ربا يأكله الرجل أشد عند الله إثما من ست وثلاثين زنية".
  • جاء عن رسول الله أنه قال : "اجتنبوا السبع الموبقات، قيل يا رسول الله، وما هي؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المؤمنات الغافلات".
  • أضرار الربا والحكمة من تحريمه

    جعل الإسلام الربا من الكبائر لتأثيراته السلبية على الفرد والمجتمع المسلم. فالربا يزيد من انتشار الفقر ويجعل المال في يد الأغنياء ومن ثم تختفي الطبقة الوسطي الي جانب تفشي العبودية للمال والبخل والتكالب علي المادة ويتفكك المجتمع ووضع مال المسلمين بين أيدي خصومهم لذلك حرم الإسلام الربا وجعله من الكبائر.





    اولا: اتباع الجنائز
    أدلة الجواز و الكراهة 
    عند ابن ابى شيبة:
    - حدثنا وَكِيعٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِي جِنَازَةٍ فَرَأَى عُمَرُ امْرَأَةً، فَصَاحَ بِهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعْهَا يَا عُمَرُ فَإِنَّ الْعَيْنَ دَامِعَةٌ، وَالنَّفْسَ مُصَابَةٌ، وَالْعَهْدَ قَرِيبٌ . (صحيح)
    - عن انس قال  مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأة تبكي عند قبر ، فقال لها  اتقي الله واصبري ، قالت : إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ، ولم تعرفه ، فقيل لها : إنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأتت باب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوابين ، فقالت : لم أعرفك ، فقال  إنما الصبر عند الصدمة الأولى( رواه البخاري)
    وجه الاستدلال للحديثين :
    ان النبى تركهم و لم ينهاهم و الانبياء لا يجوز لهم تأخير البيان عن وقت الحاجة.

    - عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا( رواه البخاري ومسلم)
    هذا الاثر يفيد الكراهة فقط ولا يفيد التحريم
    قال الحافظ فى الفتح : وَبِهِ قَالَ جُمْهُور أَهْل الْعِلْم ، وَمَالَ مَالِك إِلَى الْجَوَاز وَهُوَ قَوْل أَهْل الْمَدِينَة
    قال ابن المنذر : روينا عن ابن مسعود ، وابن عمر ، وأبى أمامة ، وعائشة أنهم كرهوا للنساء اتباع الجنائز ، وكره ذلك أبو أمامة ، ومسروق ، والنخعى ، والحسن ، ومحمد بن سيرين ، وهو قول الأوزاعى ، وأحمد ، وإسحاق ، وقال الثورى : اتباع النساء الجنازة بدعة.
    ورُوى جواز اتباع النساء الجنازة عن ابن عباس ، والقاسم ، وسالم ، وعن الزهرى وربيعة وأبى الزناد مثله ، ورخص مالك في ذلك وقال : قد خرج النساء قديمًا في الجنائز ، وخرجت أسماء تقود فرس الزبير وهى حامل ، وقال: ما أرى بخروجهن بأسًا إلا في الأمر المستنكر. قال ابن المنذر: وقد احتج من كره ذلك بحديث أم عطية.

      
    ثانيا: زيارة القبور

    - عن بُرَيْدَةَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَة الْقُبُور فَزُورُوهَا " (صحيح مسلم) زَادَ التِّرْمِذِيُّ : فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ

    قال الشيخ الالبانى : النهي كان شاملاً للرجال والنساء معاً فلما قال : (كنت نهيتكم عن زيارة القبور) كان مفهوما أنه كان يعني الجنسين ضرورة أنه يخبرهم عما كان في أول الأمر من نهي الجنسين فإذا كان الأمر كذلك كان لزاما أن الخطاب في الجملة الثانية من الحديث وهو قوله : (فزوروها) إنما أراد به الجنسين أيضا ويؤيده أن الخطاب في بقية الأفعال المذكورة في روايته : (ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكراً)

    - عَنْ أَبِي هُرَيْرَة عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ " زُورُوا الْقُبُور فَإِنَّهَا تُذَكِّر الْمَوْت "(صحيح مسلم)

    - قَالَ عَبْد اللَّه بْن أَبِي مُلَيْكَة لِعَائِشَة يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْت ؟ قَالَتْ : مِنْ قَبْر أَخِي عَبْد الرَّحْمَن فَقُلْت لَهَا : أَلَيْسَ قَدْ نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ زِيَارَة الْقُبُور ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ثُمَّ أَمَرَ بِزِيَارَتِهَا (المستدرك صحيح) صححه الذهبى و البوصيرى و الالبانى

    - وفى الحديث الطويل: عن عَائِشَةُ ان النبى قَالَ « فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِى حِينَ رَأَيْتِ فَنَادَانِى فَأَخْفَاهُ مِنْكِ فَأَجَبْتُهُ فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِى فَقَالَ إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِىَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ ». قَالَتْ قُلْتُ كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « قُولِى السَّلاَمُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلاَحِقُونَ ».(صحيح مسلم)

    عرض المذاهب في المسألة :
    - ذهب الامام احمد الى جواز زيارة النساء للقبور فى احدى الروايتين عنه و هو رواية عند المالكية و الشافعية والحنفية ، قال السرخسى فى المبسوط : وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّ الرُّخْصَةَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا وهو مذهب ابن حزم.
    وذهب بعض الحنفية الى استحباب زيارة النساء للقبور.
    قال الحافظ : وَاخْتُلِفَ فِي النِّسَاء فَقِيلَ : دَخَلْنَ فِي عُمُوم الْإِذْن وَهُوَ قَوْل الْأَكْثَر ، وَمَحَلّه مَا إِذَا أُمِنَتْ الْفِتْنَة وَيُؤَيِّد الْجَوَاز حَدِيث الْبَاب. وقال ايضا : وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى جَوَاز زِيَارَة الْقُبُور سَوَاء كَانَ الزَّائِر رَجُلًا أَوْ اِمْرَأَة كَمَا تَقَدَّمَ ، وَسَوَاء كَانَ الْمَزُور مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا ، لِعَدَمِ الِاسْتِفْصَال فِي ذَلِكَ ، قَالَ النَّوَوِيّ : وَبِالْجَوَازِ قَطَعَ الْجُمْهُور ، وَقَالَ صَاحِب الْحَاوِي : لَا تَجُوز زِيَارَة قَبْر الْكَافِر ، وَهُوَ غَلَط اِنْتَهَى.

    - وذهب الامام احمد فى الرواية الاخرى الى الكراهة وهى رواية عند الشافعية و المالكية ايضا.
    - وذهب بعض الشافعية و شيخ الاسلام و ابن القيم الى التحريم .


    - مناقشة ادلة المانعين و الرد عليها
    اعلم ان الشيخ ابن عثيمين جمع اقوال المانعين من قبل مثل شيخ الاسلام وابن القيم وزاد عليها ، وإليك ادلة المخالفين و الرد عليها :
                                            الادلة:  
    - حديث لعن الله زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج و فى لفظ زائرات
    قال الشيخ ابن عثيمين : وهذا الحديث يدل على تحريم زيارة النساء للقبور، بل على أنه من كبائر الذنوب، لأن اللعن لا يكون إلا على كبيرة، ويدل على تحريم اتخاذ المساجد والسرج عليها ، وهو كبيرة من كبائر الذنوب للعن فاعله.
    وقال أيضاً :  اولاً: دعوى النسخ غير صحيحة، لأنها لا تقبل إلا بشرطين:
    الشرط الاول : تعذر الجمع بين النصين ، والجمع هنا سهل وليس بمتعذر، لأنه يمكن أن يقال: إن الخطاب في قوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها" للرجال، والعلماء اختلفوا فيما إذا خوطب الرجال بحكم: هل يدخل النساء أو لا؟ وإذا قلنا بالدخول - وهو الصحيح ـ، فإن دخولهن في هذا الخطاب من باب دخول أفراد العام في العموم، وعلى هذا يجوز أن يخصص بعض أفراد العام بحكم يخالف العام، وهنا نقول قد خص النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء من هذا الحكم، فأمره بالزيارة للرجال فقط، لأن النساء أخرجن بالتخصيص من هذا العموم بلعن الزائرات ، وأيضاً مما يبطل النسخ قوله : "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" ، ومن المعلوم أن قوله: "والمتخذين عليها المساجد والسرج" ، لا أحد يدعي أنه منسوخ ، والحديث واحد ، فإدعاء النسخ في جانب منه دون آخر غير مستقيم، وعلى هذا يكون الحديث محكماً غير منسوخ.
    الجواب :
    ورد فى الحديث الصحيح عند ابن ابى شيبة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِي جِنَازَةٍ فَرَأَى عُمَرُ امْرَأَةً ، فَصَاحَ بِهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعْهَا يَا عُمَرُ فَإِنَّ الْعَيْنَ دَامِعَةٌ ، وَالنَّفْسَ مُصَابَةٌ ، وَالْعَهْدَ قَرِيبٌ
    قلت هذا الحديث لم يتعرض له المانعين بجواب و هو حديث صحيح.
    من الحديث السابق تبين انها امرأة وبهذا يتعذر الجمع بين النصين. اما  قول الشيخ: "والمتخذين عليها المساجد والسرج"، لا أحد يدعي أنه منسوخ، والحديث واحد، فادعاء النسخ في جانب منه دون آخر غير مستقيم فغير صحيح بل النسخ مستقيم للاسباب التالية:
    أولا:  النسخ هو رفع حكم شرعي ثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخ عنه وهناك تعريفات اخرى كثيرة للمعنى الاصطلاحى للنسخ الا انها تشترك فى انه رفع للحكم شرعى فأذا كان كذلك فيتبين ان رفع الحكم الشرعى غير مرتبط بالحديث الواحد اذ ان الحديث الواحد قد يحتوى على عدة احكام شرعية مثل حديث هو الطهور ماؤه الحل ميتته الذى احتوى على حكمين طهورية ماء البحر وحل ميتته ومن هنا يتبين انه يجوز رفع حكم من الحديث دون الحكم الاخر او الاحكام الاخرى لعدم الارتباط بينهما وهذا ما فهمه العلماء ان احاديث النهى عن الزيارة منسوخة امثال ابن الصلاح والحاكم وابن بطال وابن حجر وغيرهم كثير.
    ثانيا: ادعاء النسخ في جانب منه دون آخر ظاهر فى القران و السنة فقد خصصت اية المائدة "{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } الآية التي فى  البقرة: { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ }
    قال ابن عباس لما نزلت هذه الآية: { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } قال: فحجز الناس عنهن حتى نزلت التي بعدها: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } فنكح الناس نساء أهل الكتاب.
    و هذا يدل على بقاء تحريم نكاح الكافرات من غير اهل الكتاب وكذلك رجال الكفار بما فيهم اهل الكتاب فلا يجوز ان ينكح رجال اهل الكتاب المسلمات بأى حال وهذا يدل على ان اية المائدة خصصت جزء من اية البقرة ولم تلغى احكامها بالكلية وهذا ما يسميه بعض العلماء النسخ الجزئى.
    ثالثا: ان النبى نهى عن اتخاذ القبور مساجد فى مرض موته ايضا من دون نهى النساء عن زيارة القبور فيتبين من ذلك نسخ نهى النساء عن زيارة القبور وبقاء النهى فى حق المتخذين عليها المساجد و السرج.

    رابعا: ان الشيخ ادعى ان النسخ فى حق الرجال فقط مع ان الخطاب إنما أراد به الجنسين ويؤيده أن الخطاب في بقية الأفعال المذكورة في روايته : (ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرا) ، ومن ثم فان من ادعى النسخ في حق الرجال فقط فقد ادعى النسخ فى جانب منه دون آخر اذ ان امساك لحوم الاضاحى جائز للنساء والرجال كما ان المسكر محرم للنساء والرجال على السواء ولم يختص بالرجال فقط وهذا تناقض فى دعوى عدم جواز النسخ في جانب منه دون آخر وقد سبق ان اوضحنا انه يجوز النسخ في جانب دون آخر .

    الشرط الثانى (الكلام من هنا للشيخ ابن عثيمين) : العلم بالتاريخ ، وهنا لم نعلم التاريخ ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: كنت لعنت من زار القبور ، بل قال: "كنت نهيتكم"، والنهي دون اللعن.
    الجواب :
    المتعين ان احاديث النهى منسوخة للتصريح الواضح بالنسخ الذى لا يحتاج الى تاريخ كما قال ابن الصلاح فى مقدمته  ان الناسخ والمنسوخ يعرف بعدة قرائن منها تصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم به. كما لا يخفى فى حديث كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَة الْقُبُور فَزُورُوهَا
    كما ان تاريخ جواز الزيارة بعد النهى يقينا ومما يدل على ذلك قول أم عطية المتقدم وقول ام المؤمنين عائشة حين سئلت عن النهى : (نَعَمْ ثُمَّ أَمَرَ بِزِيَارَتِهَا) ، وهذا بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم.
    قال الحاكم : وهذه الأحاديث المروية في النهي عن زيارة القبور منسوخة والناسخ لها حديث علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم : قد كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فقد أذن الله تعالى لنبيه في زيارة قبر أمه.
     قال ابن الصلاح : فى مقدمته فى الكلام عن معرفة ناسخ الحديث ومنسوخه: وهذا حكم وقع لنا، سالم من اعتراضات وردت على غيره ثم أن ناسخ الحديث ومنسخه ينقسم إلى أقساماً: فمنها ما يعرف بتصريح رسول الله صلى الله عليه وسلم به، كحديث بريدة الذي اخرجة مسلم في صحيحه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فذوروها
    و قال ابن بطال : وحديث أنس فى هذا الباب يشهد لصحة أحاديث الإباحة لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - إنما عرض على المرأة الباكية الصبر ورغبها فيه ، ولم ينكر عليها جلوسها عنده ولا نهاها عن زيارته ، لأنه  - صلى الله عليه وسلم -  لا يترك أحدًا يستبيح ما لا يجوز بحضرته ولا ينهاه لأن الله تعالى فرض عليه التبليغ والبيان لأمته ، فحديث أنس وشبهه ناسخ لأحاديث النهى فى ذلك.
    وقال الشيخ الالبانى : فى حديث عائشة والحديث استدل به الحافظ في  التلخيص على جواز الزيارة للنساء وهو ظاهر الدلالة عليه وهو يؤيد أن الرخصة شملهن مع الرجال ، لان هذه القصة إنما كانت في المدينة والنهى إنما كان في أول الامر في مكة ونحن نجزم بهذا وإن كنا لا نعرف تاريخا يؤيد ذلك لان الاستنتاج الصحيح يشهد له ، وذلك من قوله صلى الله عليه وسلم (كنت نهيتكم) ، إذ لا يعقل في مثل هذا النهي أن يشرع في العهد المدني دون العهد المكي الذي كان أكثر ما شرع فيه من الاحكام إنما هو فيما يتعلق بالتوحيد والعقيدة والنهي عن الزيارة من هذا القبيل لانه من باب سد الذرائع وتشريعه إنما يناسب العهد المكي لان الناس كانوا فيه ، حديثي عهد بالاسلام ، وعهدهم بالشرك قريب فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن الزيارة لكي لا تكون ذريعة إلى الشرك حتى إذا استقر التوحيد في قلوبهم وعرفوا ما ينافيه من أنواع الشرك أذن لهم الزيارة وأما أن يدعهم طيلة العهد المكي على عادتهم في الزيارة ثم ينهاهم عنها في المدينة فهو بعيد جدا عن حكمة التشريع ولهذا جزمنا بأن النهي إنما كان تشريعه في مكة فإذا كان كذلك فأذنه لعائشة بالزيارة في المدينة دليل واضح على ما ذكرنا فتأمله فانه شئ انقدح في النفس ، ولم أر من شرحه على هذا الوجه ، فان أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي انتهى كلام الشيخ الالبانى رحمه الله.
     .
    و اكمل الشيخ بن عثيمين رحمه الله فقال: وأيضاً قوله: "كنت نهيتكم" خطاب للرجال، ولعن زائرات القبور خطاب للنساء، فلا يمكن حمل خطاب الرجال على خطاب النساء، إذاً، فالحديث لا يصح فيه دعوى النسخ.
    تمت الاجابة على هذه الجزئية بالحديث الذى ذكره ابن ابى شيبة فى مقدمة البحث و كذلك حديث عائشة و فهم ام عطية.
    وثانياً: قول الشيخ عن حديث المرأة وحديث عائشة، أن المرأة لم تخرج للزيارة قطعاً، لكنها أصيبت، ومن عظم المصيبة عليها لم تتمالك نفسها لتبقى في بيتها، ولذلك خرجت وجعلت تبكي عند القبر مما يدل على أن في قلبها شيئاً عظيماً لم تتحمله حتى ذهبت إلى ابنها وجعلت تبكي عند قبره، ولهذا أمرها - صلى الله عليه وسلم - أن تصبر، لأنه علم أنها لم تخرج للزيارة، بل خرجت لما في قلبها من عدم تحمل هذه الصدمة الكبيرة، فالحديث ليس صريحاً بأنها خرجت للزيارة، وإذا لم يكن صريحاً، فلا يمكن أن يعارض الشيء الصريح بشيء غير صريح.
    الجواب
    ان هذه المرأة خرجت قاصدة قبر ابنها يقينا و هو صريح فى خروجها لابنها كما لا يخفى و لم ينكر عليها النبى صلى الله عليه و سلم زيارتها لقبر ابنها وانما انكر عليها عدم الصبر.
    اكمل الشيخ بن عثيمين فقال : وأما حديث عائشة، فإنها قالت للرسول - صلى الله عليه وسلم -: ماذا أقول؟ فقال: "قولي: السلام عليكم"، فهل المراد أنها تقول ذلك إذا مرت ، أو إذا خرجت زائرة؟ فهو محتمل ، فليس فيه تصريح بأنها إذا خرجت زائرة ، إذا من الممكن أن يراد به إذا مرت بها من غير خروج للزيارة، وإذا كان ليس صريحاً، فلا يعارض الصريح.

    الجواب :
    ان فى سياق الحديث إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِىَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ وهذا صريح فى قصد الزيارة من النبى و هذا ما فهمته السيدة عائشة وهذا و اضح فى فعلها مع بن ابى مليكة وسوف يأتى ومن ادعى غير ذلك فعليه البينة.

    وقال الشيخ بن عثيمين : وأما فعلها مع أخيها رضي الله عنهما ، فإن فعلها مع أخيها لم يستدل عليها عبدالله بن أبي مليكة بلعن زائرات القبور ، وإنما استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور مطلقاً ، لأنه لو استدل عليها بالنهي عن زيارة النساء للقبور أو بلعن زائرات القبور ، لكنا ننظر بماذا ستجيبه ، فهو استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور ، ومعلوم أن النهي عن زيارة القبور كان عاماً ، ولهذا أجابته بالنسخ العام ، وقالت: إنه قد أمر بذلك ، ونحن وإن كنا نقول : إن عائشة رضي الله عنها استدلت بلفظ العموم، فهي كغيرها من العلماء لا يعارض بقولها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم
    الجواب
    قلت ان قصد الشيخ عدم علم السيدة عائشة بحديث لعن الله زورات القبور قلنا فهم السيدة عائشة شاركته فيه ام عطية رضي الله عنها والاحاديث الصحيحة التى تفيد النسخ.
    وإن قصد انها اجابت بالنهي العام فهذا غير متصور لانه بذلك يصبح انكار عبدالله بن أبي مليكة على السيدة عائشة لغواً و رد السيدة عائشة عليه يكون لغواً ايضاً  حيث قال هو : أَلَيْسَ قَدْ نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ زِيَارَة الْقُبُور؟  
    ومن المعلوم ان استفهامه كان عن تحريم زيارة القبور ، والنهي اوسع من اللعن ، فان كل لعن نهي وليس كل نهي لعن ، والدليل انه قصد اللعن فى استفهامه قولها نَعَمْ ثُمَّ أَمَرَ بِزِيَارَتِهَا فهي رضى الله عنها  قصدت اللعن اذا لو لم تكن قصدت الا النهي لشملها اللعن ضمنيا ومعاذ الله ان تكون كذلك ولم يكون لاجابتها ادنى فائدة.
     قلت ايضا وهذا الحديث يبين قصد زيارة السيدة عائشة لقبر اخيها  حيث انكر ابن ابي مليكة عليها زيارة قبر اخيها فقال كما في نص الاثر : أَلَيْسَ قَدْ نَهَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ زِيَارَة الْقُبُور؟ و اجابت هي بان الحكم قد نسخ و هذا يوضح انها قصدت الزيارة حيث اجابت على اعتراضه عليها بالنسخ ولم تعترض عليه بانها لم تقصد الزيارة .
    ولم حيث ان اللعن نهى فى حقيقة الامر. فان  لعن الله لراشى و المرتشى فى الحقيقة نهى عن الرشوة .

    اكمل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فقال : * إشكال وجوابه:
    في قوله: "زوارات القبور" ألا يمكن أن يحمل النهي عن تكرار الزيارة لأن "زوارات" صيغة مبالغة.
    الجواب: هذا ممكن، لكننا إذا حملناه على ذلك، فإننا أضعنا دلالة المطلق "زائرات".
    والتضعيف قد يحمل على كثرة الفاعلين لأن على كثرة الفعل، فـ"زوارات" يعني: النساء إذا كن مئة كان فعلهن كثيراً ، والتضعيف باعتبار الفاعل موجود في اللغة العربية، قال تعالى: { جنات عدن مفتحة لهم الأبواب } [ص: 50]، فلما كانت الأبواب كثيرة كان فيها التضعيف، إذا الباب لا يفتح إلا مرة واحدة، وأيضاً قراءة { حتى إذا جاؤوها وفتحت } [الزمر: 73]، فهي مثلها.
    فالراجح تحريم زيارة النساء للمقابر، وأنها من كبائر الذنوب.
    الجواب
    هذا الرد لا يلزمنا و انما يلزم من قال ان النهى غير منسوخ وان النهى للمكثرات من الزيارة وهو مذهب القرطبى والشوكانى والالبانى ومن وافقهم ، قال القرطبي :  ( اللعن المذكور في الحديث إنما هو للمكثرات من الزيارة لما تقتضيه الصيغة من المبالغة ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ من الصياح ونحو ذلك وقد يقال : إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الأذن لهن لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء
    وذهب البعض الاخر ان اللعن للنساء محمول عَلَى مَا إذَا كَانَتْ زِيَارَتُهُنَّ لِلتَّعْدِيدِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَتُهُنَّ أَوْ كَانَ فِيهِ خُرُوجٌ مُحَرَّمٌ وَقِيلَ تُبَاحُ إذَا أُمِنَ الِافْتِتَانُ عَمَلًا بِالْأَصْلِ للجمع بين الادلة ، وهذا الرأي لم يرد عليه الشيخ.
    ومنهم ايضا من ضعف لفظ زائرات.

    ادلة اخرى للمانعين و الرد عليها:
    - عن أنس بن مالك قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه و سلم في جنازة فرأى نسوة فقال : أتحملنه ؟ قلن : لا قال : تدفنه ؟ قلن : لا قال : فارجعن مأزورات غير مأجورات.
    الجواب
    الحديث (ضعيف) فيه الحارث بن زياد قال الذهبي: ضعيف.وضعفه النووى و الالبانى و غيرهم.

    - عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال : «قَبَرْنا مع رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- مَيّتا ، فلما فرغنا انصرف رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ، وانصرفنا معه ، فلما حاذَى رسولُ الله بابَه وقف ، فإذا نحن بامرأة مُقِبلَة - قال : أظنُّه عرفها - فلما ذهبت ، فإذا هي فاطمةُ ، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ما أخرَجَك ، يا فاطمةُ من بيتكِ ؟ قالت : أتيتُ يا رسولُ الله أهل هذا البيت ، فرحَّمْتُ إليهم ميَّتَهم - أو عَزَّيُتُهَم به - فقال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : لعلَّكِ بَلَغْتِ معهم الكُدَى؟ فقالت : معاذ الله ، وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر ، قال : لو بلغت معهم الكُدى - فذكر تشديدا في ذلك - قال : فسألتُ ربيعة بن سيف عن الكدى ؟ فقال : القبور ، فيما أحسِب ».
    أخرجه أبو داود ، وأخرجه النسائي بنحوه ، وقال في آخره « فقال : لو بلَغْتِها معهم ما رأيتِ الجنة حتى يراها جَدُّ أبيكِ ».
    الجواب
    الحديث ضعيف سندا و متنا فهو من رواية ربيعة بن سيف المعافري و هو ضعيف ومما يدل على نكارة هذا المتن قوله : (( ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك و هذا يؤول بها الى الكفر   لأن عبد المطلب جد النبي- صلى الله عليه وسلم - مات كافراً على دين الجاهلية.
    وقد ضعفه النووى و الالبانى و شعيب الارنؤوط و غيرهم.
    و قال الامام الذهبى فى المهذب منكر و قد اغتر البعض بموافق الذهبى للحاكم فى المستدرك على تصحيح هذا الحديث الا ان الذهبى كان قد علق على المستدرك فى بداية التحقيق او انه لم يقصد التحقيق بدليل أن الذهبي نفسه قد صرح  في سير اعلام النبلاء عند ذكره اختصاره للمستدرك بأنه كتاب مفيد ولكن يعوز عملا وتحرير و هذا يدل على ان الذهبى قد رجع عن تصحيح احاديث عند الحاكم بعد زيادة رسوخ  قدمه فى علم الحديث أو قصد التحقيق و لذلك قال فى المهذب منكر.

    تأملات إيمانية

    [تأملات إيمانية][fbig1]

    دروس ومحاضرات

    [دروس ومحاضرات][slider2]
    يتم التشغيل بواسطة Blogger.